فصل: ذكر حصر رضوان نصيبين وعوده عنها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر حال الباطنية هذه السنة بخراسان:

في هذه السنة سار جمع كثير من الإسماعيلية من طريثيت، عن بعض أعمال بيهق، وشاعت الغارة في تلك النواحي، وأكثروا القتل في أهلها، والنهب لأموالهم، والسبي لنسائهم، ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة.
وفي هذه السنة اشتد أمرهم، وقويت شوكتهم، ولم يكفوا أيديهم عمن يريدون قتله، لاشتغال السلاطين عنهم. فمن جملة فعلهم: أن قفل الحاج تجمع، هذه السنة، مما وراء النهر، وخراسان، والهند، وغيرها من البلاد، فوصلوا إلى جوار الري، فأتاهم الباطنية وقت السحر، فوضعوا فيهم السيف، وقتلوهم كيف شاؤوا، وغنموا أموالهم ودوابهم، ولم يتركوا شيئاً.
وقتلوا هذه السنة أبا جعفر بن المشاط، وهو من شيوخ الشافعية، أخذ الفقه عن الخجندي، وكان يدرس بالري، ويعظ الناس، فلما نزل من كرسيه أتاه باطني فقتله.

.ذكر حال الفرنج هذه السنة مع المسلمين بالشام:

في هذه السنة، في شعبان، كانت وقعة بين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية، وبين الملك رضوان، صاحب حلب، انهزم فيها رضوان.
وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح، وبه نائب الملك رضوان، فضيق الفرنج على المسلمين، فأرسل النائب بالحصن إلى رضوان يعرفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسه ويطلب النجدة، فسار رضوان في عسكر كثير من الخيالة، وسبعة آلاف من الرجالة، منهم ثلاثة آلاف من المتطوعة، فساروا حتى وصلوا إلى قنسرين، وبينهم وبين الفرنج قليل، فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح، فأراد أن يجيب، فمنعه أصبهبذ صباوة، وكان قد قصده، وصار معه بعد قتل إياز، فامتنع من الصلح، واصطفوا للحرب، فانهزمت الفرنج من غير قتال، ثم قالوا: نعود ونحمل عليهم حملة واحدة، فإن كانت لنا، وإلا انهزمنا، فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا، وانهزموا، وقتل منهم وأسر كثير.
وأما الرجالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا، فاشتغلوا بالنهب، فقتلهم الفرنج، ولم ينج إلا الشريد فأخذ أسيراً، وهرب من في أرتاح إلى حلب، وملكه الفرنج، لعنهم الله تعالى، وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق، فصار معه ومن أصحابه.

.ذكر حرب الفرنج والمصريين:

في ذي الحجة من هذه السنة كانت وقعة بين الفرنج والمسلمين كانوا فيها على السواء.
وسببها أن الأفضل، وزير صاحب مصر، كان قد سير ولده شرف المعالي في السنة الخالية إلى الفرنج، فقهرهم، وأخذ الرملة منهم، ثم اختلف المصريون والعرب، وادعى كل واحد منهما أن الفتح له، فأتاهم سرية الفرنج، فتقاعد كل فريق منهما بالآخر، حتى كاد الفرنج يظهرون عليهم، فرحل عند ذلك شرف المعالي إلى أبيه بمصر، فنفذ ولده الآخر، وهو سناء الملك حسين، في جماعة من الأمراء منهم جمال الملك، والنائب بعسقلان للمصريين، وأرسلوا إلى طغتكين أتابك بدمشق يطلبون منه عسكراً، فأرسل إليهم أصبهبذ صباوة ومعه ألف وثلاثمائة فارس.
وكان المصريون في خمسة آلاف، وقصدهم بغدوين الفرنجي، صاحب القدس، وعكة، ويافا، في ألف وثلاثمائة فارس، وثمانية آلاف راجل، فوقع المصاف بينهم بين عسقلان ويافا، فلم تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، فقتل من المسلمين ألف ومائتان، ومن الفرنج مثلهم، وقتل جمال الملك، أمير عسقلان.
فلما رأى المسلمون أنهم قد تكافأوا في النكاية قطعوا الحرب وعادوا إلى عسقلان، وعاد صباوة إلى دمشق، وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش، وكان طغتكين قد عدل في الملك إلى ولد أخيه دقاق، وهو طفل، وقد ذكرناه، فدعاه ذلك إلى قصد الفرنج، والكون معهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عظم فساد التركمان بطريق خراسان من أعمال العراق، قد كانوا قبل ذلك ينهبون الأموال، ويقطعون الطريق، إلا أنهم عندهم مراقبة. فلما كانت هذه السنة اطرحوا المراقبة، وعملوا الأعمال الشنيعة، فاستعمل إيلغازي بن أرتق، وهو شحنة العراق، على ذلك البلد ابن أخيه بلك بن بهرام بن أرتق، وأمره بحفظه وحياطته، ومنع الفساد عنه، فقام في ذلك القيام المرضي، وحمى البلاد، وكف الأيدي المتطاولة، وسار بلك إلى حصن خانيجار، وهو من أعمال سرخاب بن بدر، فحصره وملكه.
وفيها، في شعبان، جعل السلطان محمد قسيم الدولة سنقر البرسقي شحنة بالعراق، وكان موصوفاً بالخير، والدين، وحسن العهد، لم يفارق محمداً في حروبه كلها.
وفيها أقطع السلطان محمد الكوفة للأمير قايماز، وأوصى صدقة أن يحمي أصحابه من خفاجة، فأجاب إلى ذلك.
وفيها، في شهر رمضان، وصل السلطان محمد إلى أصبهان، فأمن أهلها، ووثقوا بزوال ما كان يشملهم من الخبط، والعسف، والمصادرة، وشتان بين خروجه منها هارباً متخفياًن وعوده إليها سلطاناً متمكناً، وعدل في أهلها، وأزال عنهم ما يكرهون، وكف الأيدي المتطرقة إليهم من الجند وغيرهم، فصارت كلمة العامي أقوى من كلمة الجندي، ويد الجندي قاصرة عن العامي من هيبة السلطان وعدله.
وفيها كثر الجدري في كثير من البلدان، لا سيما العراق، فإنه كان به كله، ومات به من الصبيان ما لا يحصى، وتبعه وباء كثير، وموت عظيم.
وتوفي في هذه السنة، في شوال، أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البرداني، الحافظ، ومولده سنة ست وعشرين وأربعمائة، سمع ابن غيلان، والبرمكي، والعشاري وغيرهم.
وتوفي أبو المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال، ومولده سنة ست عشرة وأربعمائة، سمع أبا بكر البرقاني، وأبا علي بن شاذان، وكانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي رابع جمادى الأولى توفي أبو الحسن محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر، الفقيه الشافعي، ومولده سنة تسع وأربعمائة، وكان أديباً، شاعراً، فمن قوله:
من قال لي جاه، ولي حشمة، ** ولي قبول عند مولانا

ولم يعد ذاك بنفع على ** صديقه، لا كان من كانا

وفيها أيضاً توفي أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا، وكان كاتباً للخليفة جيد الكتابة، وكان عمره سبعين سنة، ولم يخلف وارثاً لأنه أسلم، وأهله نصارى، فلم يرثوه، وكان يبخل، إلا أنه كان كثير الصدقة، وأبو المؤيد عيسى بن عبد الله بن القاسم الغزنوي، كان واعظاً، شاعراً، كاتباً، قدم بغداد، ووعظ بها، ونصر مذهب الأشعري، وكان له قبول عظيم، وخرج منها، فمات باسفرايين. ثم دخلت:

.سنة تسع وتسعين وأربعمائة:

.ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد:

في هذه السنة، في المحرم، أظهر منكبرس ابن الملك بوربرس بن ألب أرسلان، وهو ابن عماد الملك السلطان محمد، العصيان للسلطان محمد والخلاف عليه.
وسبب ذلك: أنه كان مقيماً بأصبهان، فلحقته ضائقة شديدة، وانقطعت المواد عنه، فخرج منها وسار إلى نهاوند، فاجتمع عليه بها جماعة من العسكر، وظاهره على أمره جماعة من الأمراء، وتغلب على نهاوند، وخطب لنفسه بها، وكاتب الأمراء بني برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته.
وكان السلطان محمد قد قبض على زنكي بن برسق، فكاتب زنكي إخوته، وحذرهم من طاعة منكبرس، وما فيها من الأذى والخطر، وأمرهم بتدبير الأمر في القبض عليه.
فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة، فسار إليهم، وساروا إليه، فاجتمعوا به، وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم، وبلد خوزستان، وتفرق أصحابه، وأخذوا منكبرس إلى أصبهان، فاعتقله السلطان مع بني عمه تكش، وأخرج زنكي بن برسق، وأعاده إلى مرتبته، واستنزله وإخوته عن أقطاعهم، وهي ليشتر، وسابور خواست وغيرهما، ما بين الأهواز وهمذان، وأقطعهم عوضها الدينور وغيرها.
واتفق أن ظهر بنهاوند أيضاً، في هذه السنة، رجل من السواد ادعى النبوة، فأطاعه خلق كثير من السوادية، واتبعوه، وباعوا أملاكهم ودفعوا إليه أثمانها، فكان يخرج ذلك جميعه، وسمى أربعة من أصحابه: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وقتل بنهاوند، فكان أهلها يقولون: ظهر عندنا، في مدة شهرين، اثنان ادعى أحدهما النبوة، والآخر المملكة، فلم يتم لواحد منهما أمره.

.ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج:

في هذه السنة، في صفر، كانت وقعة بين طغتكين أتابك، صاحب دمشق، وبين قمص كبير من قمامصة الفرنج.
وسبب ذلك: أنه تكررت الحروب، والمغاورات، بين عسكر دمشق وبغدوين، فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصناً بينه وبين دمشق نحو يومين، فخاف طغتكين من عاقبة ذلك، وما يحدث به من الضرر، فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم، فسار بغدوين ملك القدس، وعكا، وغيرهما، إلى هذا القمص ليعاضده، ويساعده إلى المسلمين، فعرفه القمص غناه عنه، وأنه قادر على مقارعة المسلمين إن قاتلوه، فعاد بغدوين إلى عكا.
وتقدم طغتكين إلى الفرنج، واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم أميران من عسكر دمشق، فتبعهما طغتكين وقتلهما، وانهزم الفرنج إلى حصنهم، فاحتموا به، فقال طغتكين: من أحسن قتالهم وطلب مني أمراً فعلته معه، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير. فبذل الرجالة نفوسهم، وصعدوا إلى الحصن وخربوه، وحملوا حجارته إلى طغتكين، فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي، وأسروا من بالحصن، فأمر بهم فقتلوا كلهم، واستبقى الفرسان أسراء، وكانوا مائتي فارس، ولم ينج ممن كان في الحصن إلا القليل.
وعاد طغتكين إلى دمشق منصوراً، فزين البلد أربعة أيام، وخرج منها إلى رفنية، وهو من حصون الشام، وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس، فحصره طغتكين، وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.

.ذكر الحرب بين عبادة وخفاجة:

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عبادة وخفاجة.
وسببها: أن رجلاً من عبادة أخذ منه جماعة خفاجة جملين، فجاء إليهم وطالبهم بهما، فلم يعطوه شيئاً، فأخذ منهم غارة أحد عشر بعيرا، فلحقته خفاجة، وقتلوا من أصحابه رجلاً، وقطعوا يد آخر، وكان ذلك بالموقف من الحلة السيفية، ففرق بينهم أهلها. فسمعت عبادة الخبر، فتواعدت، وانحدرت إلى العراق للأخذ بثأرها، وساروا مع جماعة من أمرائهم، فبلغت عدتهم سبعمائة فارس، وكانت خفاجة دون هذه العدة، فراسلتهم خفاجة يبذلون الدية ويصطلحون، فلم تجبهم إلى ذلك عبادة، وأشار به سيف الدولة صدقة، فلم تقبل عبادة، فالتقوا بالقرب من الكوفة، ومع عبادة الإبل والغنم بين البيوت، فكمنت لهم خفاجة ثلاثمائة فارس، وقاتلوهم مطاردة من غير جد في القتال، فداموا كذلك ثلاثة أيام، ثم إنهم اشتد بينهم القتال، واختلطوا، حتى تركوا الرماح، وتضاربوا بالسيوف.
فبينما هم كذلك، وقد أعيا الفريقان من القتال، إذ طلع كمين خفاجة، وهم مستريحون، فانهزمت عبادة، وانتصرت عليهم خفاجة، وقتل من وجوه عبادة اثنا عشر رجلاً، ومن خفاجة جماعة، وغنمت خفاجة الأموال من الخيل، والإبل، والغنم، والعبيد، والإماء.
وكان الأمير صدقة بن مزيد قد أعان خفاجة سراً، فلما وصل المنهزمون إليه هنأهم صدقة بالسلامة، فقال له بعضهم: ما زلت أقاتل، وأضارب، وأنا طامع في الظفر بهم، حتى رأيت فرسك الشقراء تحت أحدهم، فعلمت أنهم أجلبوا علينا بخيلك ورجلك، وأننا لا طاقة لنا بهم، فنصروا علينا بمعونتك، وفلونا بحدك. فلم يجبه صدقة.

.ذكر ملك صدقة البصرة:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، انحدر سيف الدولة من الحلة إلى البصرة فملكها. وقد ذكرنا فيما تقدم تمكن إسماعيل بن أرسلانجق من البصرة ونواحيها، وأقام بها عشر سنين نافذ الأمر، وازداد قوة وتمكناً بالاختلاف الواقع بين السلاطين، وأخذ الأموال السلطانية، وكان قد راسل صدقة، وأظهر له أنه في طاعته وموافقته. فلما استقر الأمر للسلطان محمد أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعاً يأخذها من إسماعيل، فخاطب صدقة في معناه، حتى أقرت البصرة عليه، فأنفذ السلطان عميداً إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان هناك، فمنعه إسماعيل، ولم يمكنه من عمله، وفعل ما خرج به عن حد المجاملة، فأمر السلطان صدقة بقصده، وأخذ البصرة منه، فتحرك لذلك.
فاتفق ظهور منكبرس، وخلافه على السلطان، وأنه على قصد واسط، فسر إسماعيل بذلك، وزاد انبساطه، وأرسل صدقة حاجباً له، وكان قبله قد خدم أباه وجده، إلى إسماعيل يأمره بتسليم الشرطة وأعمالها إلى مهذب الدولة بن أبي الجبر لأنها كانت في ضمانه، فوصل إلى الشرطة، وأخذ منها أربعمائة دينار، فأحضره إسماعيل وحبسه، وأخذ الدنانير منه، فلما رأى صدقة مكاشفته سار من حلته، وأظهر أنه يريد قصد الرحبة، ثم جد السير إلى البصرة، فلم يشعر إسماعيل إلا بقربه منه، ففرق أصحابه في القلاع التي استجدها بمطارا ونهر معقل، وغيرهما، واعتقل وجوه العباسيين، والعلويين، وقاضي البصرة، ومدرسها، وأعيان أهلها.
ونازلهم صدقة، فجرى قتال بين طائفة من عسكره، وطائفة من البصريين، قتل فيه أبو النجم بن أبي القاسم الورامي، وهو ابن خال سيف الدولة صدقة، فلما مدح به سيف الدولة، ورثي به أبو النجم بن أبي القاسم، قول بعضهم:
تهن، يا خير من يحمي حريم حمىً، ** فتحاً أغثت به الدنيا مع الدين

ركبت للبصرة الغراء في نخبٍ ** غرٍ، كجيش علي يوم صفين

هوى أبو النجم كالنجم المنير بها، ** لكنه كان رجماً للشياطين

وأقام صدقة محاصراً لإسماعيل بالبصرة، فأشار على سيف الدولة صدقة بعض أصحابه بالعود عنها، وأعلموه أنهم لا يظفرون بطائل، فأشار عليهم بالمقام، وقالوا: إن رحلنا كانت كسرة، وكان رأي سيف الدولة المقام، وقال: إن تعذر علي فتح البصرة لم يطعني أحد، واستعجزني الناس.
ثم إن إسماعيل خرج من البلد، وقاتل صدقة، فسار بعض أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد، ودخلوه، وقتلوا من السوادية، الذين جمعهم إسماعيل، خلقاً كثيراً وانهزم إسماعيل إلى قلعته بالجزيرة، فأدركه بعض أصحاب سيف الدولة وأراد قتله، ففداه أحد غلمانه بنفسه، فوقعت الضربة فيه فأثخنته، فنهبت البصرة، وغنم من معه من عرب البر، وغيرهم، ما فيها، ولم يسلم منهم إلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد، فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها، وحموا المربد، وعمت المصيبة لأهل البلد، سوى من ذكرنا، وامتنع إسماعيل بقلعته.
فاتفق أن المهذب بن أبي الجبر انحدر في سفن كثيرة، وأخذ القلعة التي لإسماعيل بمطارا، وقتل بها خلقاً من أصحاب إسماعيل، وحمل إلى صدقة كثيراً فأطلقهم.
فلما علم إسماعيل بذلك أرسل إلى صدقة يطلب الأمان على نفسه، وأهله، وأمواله، فأجابه إلى ذلك، وأجله سبعة أيام، فأخذ كل ما يمكنه حمله مما يعز عليه، وما لم يقدر على حمله أهلكه بالماء وغيره، ونزل إلى سيف الدولة، وأمن سيف الدولة أهل البصرة من كل أذى، ورتب عندهم شحنة، وعاد إلى الحلة ثالث جمادى الآخرة، وكان مقامه بالبصرة ستة عشر يوماً.
وأما إسماعيل فإنه لما سار صدقة إلى الحلة قصد هو الباسيان إلى أن وصله ماله في المراكب، وسار نحو فارس، وصار يتعنت أصحابه، وزوجته، وقبض على جماعة من خواصه وقال لهم: أنتم سقيتم ولدي أفراسياب السم حتى مات! وكان قد مات في صفر من هذه السنة، ففارقه كثير منهم، حتى زوجته فارقته وسارت إلى بغداد.
وأخذته الحمى، وقويت عليه، فلما بلغ رامهرمز انفرد في خيمته، ولم يظهر لأصحابه يوماً وليلة، فظهر لهم موته، فنهبوا ماله وتفرقوا، فأرسل الأمير برامهرمز فردهم وأخذ ما معهم من أمواله، ودفن بالقرب من إيذج، وكان عمره قد جاوز خمسين سنة، وكانت سيرته قد حسنت في أهل البصرة أخيراً.

.ذكر حصر رضوان نصيبين وعوده عنها:

في هذه السنة، في شهر رمضان، حصر الملك رضوان بن تتش نصيبين.
وسبب ذلك: أنه عزم على حرب الفرنج، واجتمع معه من الأمراء: إيلغازي بن أرتق، الذي كان شحنة بغداد، وأصبهبذ صباوة، وألبى أرسلان تاش، صاحب سنجار، وهو صهر جكرمش، صاحب الموصل، فقال إيلغازي: الرأي أننا نقصد بلاد جكرمش، وما والاها، فنملكها، ونتكثر بعسكرها والأموال. ووافقه ألبى، فسار إلى نصيبين في عشرة آلاف فارس، مستهل رمضان، وكان قد جعل فيها أميرين من أصحابه في عسكر، فتحصنوا بالبلد، وقاتلوا من وراء السور، فرمي ألي أرسلان بنشابة، فجرح جرحاً شديداً، فعاد إلى سنجار.
وأما جكرمش فإنه بلغه الخبر بنزولهم على نصيبين، وهو بالجامة، التي بالقرب من طنزة، يتداوى بمائها من مرضه، فرحل إلى الموصل، وقد أجفل إليها أهل السواد، فخيم على باب البلد، عازماً على حرب رضوان، واستعمل المخادعة، فكاتب أعيان عسكر رضوان، ورغبهم، حتى أفسد نياتهم، وتقدم إلى أصحابه بنصيبين بخدمة الملك رضوان، وبإخراج الإقامات إليه مع الاحتراز منه، وأرسل إلى رضوان يبذل له خدمته، والدخول في طاعته، ويقول له: إن السلطان محمداً قد حصرني، ولم يبلغ مني غرضاً، فترحل عن صلح، وإن قبضت على إيلغازي الذي قد عرفت أنت وغيرك فساده وشره فأنا معك، ومعينك بالرجال والأموال والسلاح.
فاتفق هذا، ورضوان قد تغيرت نيته مع إيلغازي، فازداد تغيراً، وعزم على قبضه، فاستدعاه يوماً، وقال له: هذه بلاد ممتنعة، وربما استولى الفرنج على حلب، والمصلحة مصالحة جكرمش، واستصحابه معنا، فإنه يسير بعساكر كثيرة ظاهرة التجمل، ونعود إلى قتال الفرنج، فإن ذلك مما يعود باجتماع شمل المسلمين. فقال له إيلغازي: إنك جئت بحكمك، وأنت الآن بحكمي لا أمكنك من المسير بدون أخذ هذه البلاد، فإن أقمت، وإلا بدأت بقتالك.
وكان إيلغازي قد قويت نفسه بكثرة من اجتمع عنده من التركمان، وكان الملك رضوان قد واعد قوماً من أصحابه ليقبضوا عليه، فلما جرى ما ذكرناه أمرهم رضوان فقبضوا عليه وقيدوه، فلما سمع التركمان الحال أظهروا الخلاف والامتعاض، ففارقوا رضوان والتجأوا إلى سور المدينة، وأصعد إيلغازي إلى قلعتها، وخرج من بنصيبين من العسكر فأعانوه، فلما رأى التركمان ذلك تفرقوا، ونهبوا ما قدروا عليه من المواشي وغيرها، ورحل رضوان من وقته وسار إلى حلب.
وكان جكرمش قد رحل من الموصل قاصداً لحرب القوم، فلما بلغ تل يعفر أتاه المبشرون بانصراف رضوان على اختلاف وافتراق، فرحل عند ذلك إلى سنجار، ووصلت إليه رسل رضوان تستدعي منه النجدة، ويعتد عليه ما فعل بإيلغازي، فأجابه مغالطة، ولم يف له بما وعده، ونازل سنجار ليشفي غيظه من ظهره ألبي بن أرسلان تاش بما اعتمده من معاداته، ومظاهرة أعدائه، وكان ألبي على شدة من المرض بالسهم الذي أصابه على نصيبين، فلما نزل جكرمش عليها أمر ألبي أصحابه أن يحملوه إليه، فحملوه في محفة، فحضر عنده، وأخذ يعتذر مما كان منه، وقال: جئت مذنباً، فافعل بي ما تراه. فرق له وأعاده إلى بلده، فلما عاد قضى نحبه، فلما مات عصى على جكرمش من كان بسنجار، وتمسكوا بالبلد، فقاتلهم بقية رمضان، وشوالاً، ولم يظفر منهم بشيء، فجاء تميرك أخو أرسلان تاش، عم ألبي، فأصلح حاله مع جكرمش، وبذل له الخدمة، فعاد إلى الموصل.

.ذكر ملك طغتكين بصرى:

قد ذكرنا سنة سبع وتسعين حال بكتاش بن تتش، وخروجه من دمشق، واتصاله بالفرنج، ومعه أيتكين الحلبي، صاحب بصرى، وسيرهما إلى الرحبة، وعودهما عنها، فلما ضعفت أحوالهم سار طغتكين إلى بصرى فحصرها، وبها أصحاب أيتكين، فراسلوا طغتكين، وبذلوا له التسليم إليه، بعد أجل قرروه بينهم، فأجابهم إلى ذلك، فرحل عنهم إلى دمشق، فلما انقضى الأجل، هذه السنة، تسلمها، وأحسن إلى من بها، ووفى لهم بما وعدهم، وبالغ في إكرامهم، وكثر الثناء عليه، والدعاء له، ومالت النفوس إليه، وأحبوه.

.ذكر ملك الفرنج حصن أفامية:

في هذه السنة ملك الفرنج حصن أفامية من بلد الشام.
وسبب ذلك: أن خلف بن ملاعب الكلابي كان متغلباً على حمص، وكان الضرر به عظيماً، ورجاله يقطعون الطريق، فكثر الحرامية عنده، فأخذها منه تتش بن ألب أرسلان وأبعده عنها، فتقلبت به الأحوال إلى أن دخل إلى مصر، فلم يلتفت إليه من بها، فأقام بها.
واتفق أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان أرسل إلى صاحب مصر، وكان يميل إلى مذهبهم، يستدعي منهم من يسلم إليه الحصن، وهو من أمنع الحصون، وطلب ابن ملاعب منهم أن يكون هو المقيم به، وقال: إنني أرغب في قتال الفرنج، وأوثر الجهاد. فسلموه إليه، وأخذوا رهائنه، فلما ملكه خلع طاعتهم ولم يرع حقهم، فأرسلوا إليه يتهددونه بما يفعلونه بولده الذي عندهم. فأعاد الجواب: إنني لا أنزل من مكاني، وابعثوا إلي ببعض أعضاء ولدي حتى آكله، فأيسوا من رجوعه إلى الطاعة، وأقام بأفامية يخيف السبيل، ويقطع الطريق، واجتمع عنده كثير من المفسدين، فكثرت أمواله.
ثم إن الفرنج ملكوا سرمين، وهي من أعمال حلب، وأهلها غلاة في التشيع، فلما ملكها الفرنج تفرق أهلها، فتوجه القاضي الذي بها إلى ابن ملاعب وأقام عنده، فأكرمه، وأحبه، ووثق به، فأعمل القاضي الحيلة عليه، وكتب إلى أبي طاهر، المعروف بالصائغ، وهو من أعيان أصحاب الملك رضوان، ووجوه الباطنية ودعاتهم، ووافقهم على الفتك بابن ملاعب، وأن يسلم أفامية إلى الملك رضوان، فظهر شيء من هذا، فأتى إلى ابن ملاعب أولاده، وكانوا قد تسللوا إليه من مصر، وقالوا له: قد بلغنا عن هذا القاضي كذا وكذا، والرأي أن تعاجله، وتحتاط لنفسك، فإن الأمر قد اشتهر وظهر. فأحضره ابن ملاعب، فأتاه في كمه مصحف، لأنه رأى أمارات الشر، فقال له ابن ملاعب ما بلغه عنه، فقال له: أيها الأمير، قد علم كل أحد أني أتيتك خائفاً جائعاً، فأمنتني، وأغنيتني، وعززتني، فصرت ذات مال وجاه، فإن كان بعض من حسدني على منزلتي منك، وما غمرني من نعمتك سعى بي إليك، فأسألك أن تأخذ جميع ما معي، وأخرج كما جئت. وحلف له على الوفاء والنصح، فقبل عذره وأمنه.
وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ، وأشار عليه أن يوافق رضوان على إنفاذ ثلاثمائة رجل من أهل سرمين، وينفذ معهم خيلاً من خيول الفرنج، وسلاحاً من أسلحتهم، ورؤوساً من رؤوس الفرنج، ويأتوا إلى ابن ملاعب ويظهروا أنهم غزاة ويشكوا من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم، وأنهم فارقوه، فلقيهم طائفة من الفرنج، فظفروا بهم، ويحملوا جميع ما معهم إليه، فإذا أذن لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه، ففعل ابن الصائغ ذلك، ووصل القوم إلى أفامية، وقدموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها، فقبل ذلك منهم، وأمرهم بالمقام عنده، وأنزلهم في ربض أفامية.
فلما كان في بعض الليالي نام الحراس بالقلعة، فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين، ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم، وقصدوا أولاد ابن ملاعب، وبني عمه، وأصحابه، فقتلوهم، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب، وهو مع امرأته، فأحس بهم، فقال: من أنت؟ فقال: ملك الموت جئت لقبض روحك! فناشده الله، فلم يرجع عنه، وجرحه، وقتله، وقتل أصحابه، وهرب ابناه، فقتل أحدهما، والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ، صاحب شيزر، فحفظه لعهد كان بينهما.
ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها، وهو لا يشك أنها له، فقال له القاضي: إن وافقتني، وأقمت معي، فبالرحب والسعة، ونحن بحكمك، وإلا فارجع من حيث جئت. فأيس ابن الصائغ منه، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين، غضبان على أبيه، فولاه طغتكين حصناً، وضمن على نفسه حفظ الطريق، وأخذ القوافل، فاستغاثوا إلى طغتكين منه، فأرسل إليه من طلبه، فهرب إلى الفرنج، واستدعاهم إلى حصن أفامية، وقال: ليس فيه غير قوت شهر، فأقاموا عليه يحاصرونه، فجاع أهله، وملكه الفرنج، وقتلوا القاضي المتغلب عليه، وأخذوا الصائغ فقتلوه، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام.
هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر الصائغ قتله الفرنج بأفامية، وقد قيل إن ابن بديع، رئيس حلب، قتله سنة سبع وخمسمائة، بعد وفاة رضوان، وقد ذكرناه هناك، والله أعلم.